توقفت طويلًا أمام معلومة تتحدث عن غضب الإمام محمد المهدي من قتل الجنرال البريطاني تشارلز جوردون بعد الاستيلاء على الخرطوم، وأعجبتني فكرة أن الإمام المهدي كان يفكر في مبادلته بالزعيم المصري المنفي أحمد عرابي.
هذه الزاوية في الرؤية تدعونا لقراءة الثورة المهدية بطريقة مختلفة، ووضعها في مكانة الصدارة بين حركات التحرر من الاستعمار، وبالتالي ستختفي قصة العداء مع مصر والمصريين، لأن الحرب كانت مع مستعمر ظالم (تركي أو إنجليزي)، وكان الهدف هو تحرير السودان ومصر وبقية بلدان العالم الإسلامي من هذا الاستعمار الظالم!
هذا فهم مثالي رائع، لكن من يستطيع أن يثبت صحة هذه المعلومة، ويعيد تصحيح الصورة التاريخية على أساسها؟
أنا شخصيًا ممن يؤمنون بضرورة تحويل التاريخ العبء إلى تاريخ حافز، وممن يؤمنون بأهمية تفعيل الإيجابيات والتسامح مع السلبيات، هذا لو امتلكنا رؤية صافية للعمل معا من أجل مستقبل أفضل، ولهذا فإن استمراري في سرد وقائع الثورة المهدية ليس للتسلية، أو «تقليب المواجع» أو استثارة العداء والتذكير بالدم الذي سال في حروب لم تخدم مصلحة الشعبين العربيين الإسلاميين بقدر ما خدمت مصلحة أعدائهما.
طبعا من الصعب التخلص من فكرة «الإسقاط» ومن الانحيازات العرقية والأيدلوجية في قراءة التاريخ، لكن دعونا نحاول، فنحن لا نتحدث عن عصر يشبه عصرنا، فالسودان في تلك الفترة من القرن التاسع عشر، لم يكن دولة بالمعنى المتجانس، ولا يمكن الحديث عن وجود شعب بالمعني السياسي المعاصر للمصطلح، لكنه كان يعيش «مرحلة قبلية» تتوزع على ممالك وإمارات صغيرة ذات نفوذ وتقاليد خاصة في مناطقها (سنار، شندي، بربر، دارفور، إلخ)، وكذلك كانت مصر تعاني من تداعيات الصدمة الحضارية التي أحدثتها الحملة الفرنسية، والتي انتهت بوصول الجندي الألباني محمد على إلى الحكم، وبداية تركيز الإنجليز للسيطرة على المنطقة بكاملها في أوج الحقبة الاستعمارية.
تعامل محمد على مع مصر باعتبارها «تركة» آلت إليه، فسعى لتأمينها من المطامع لتوريثها إلى عائلته، وبالتالي لم يكن يعنيه فكرة «الشعب»، ولا مفهوم «الدولة»، وبدأ يفكر في توسيع وتدعيم «مشروعه»، ومن بين هذا التفكير كان امتداده «الاستعماري» نحو السودان، ربما اتخذت حملاته مسمى «الفتح»، لكنه نفس المصطلح الذي استترت به الغزوة العثمانية لمصر، قبل أن تجردها من كل شىء وتجعل منها مجرد ولاية للجباية وحقلا للفقر والجهل والمرض.
وبطبيعة الحال لابد من يوم يصرخ فيه المظلوم ويتمرد، سواء كان ذلك في مصر أو السودان، وتشاء الأقدار أن تتزامن صرخة عرابي في القاهرة، مع صرخة محمد أحمد في السودان، وإن اختلفت الأساليب والظروف.
هكذا يبدو أن المعاناة بين الشعبين مشتركة، والعدو واحد، والهدف واضح، فصيحة محمد أحمد عن العدل الغائب ورفض الضرائب والمغارم والمظالم في السودان تواكب صيحة عرابي في وجه الخديو توفيق: «لقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً ولسنا تراثاً أو عقاراً ووالله الذي لا إله إلا هو لن نستعبدولن نورث بعد اليوم».
(هناك من يشكك في هذه الواقعة التاريخية أصلا، لكن في رأيي التشكيك في التفاصيل وليس في نفي ثورة أو «هوجة» عرابي ضد تسلط وظلم الخديو توفيق).
***
أنا شخصيا أحب أن أصدق، بزوغ الروح المصرية عند عرابي ضد عنجهية التركي توفيق، كما أحب أن أصدق انتفاضة الصوفي محمد أحمد ضد عنجهية وإتاوات التركي نفسه و«عماله» من الباشاوات والخواجات الذين استباحوا السودان وجعلوها سوقا لتجارة العبيد والعاج، ولاغضاضة عندي أن تكون حراب التحرر موجهة نحو حاكم مصري الاسم مثل رؤوف باشا، أو إنجليزي الاسم مثل هكس أو جوردون، فهي في كل الأحوال ضد الظلم، وليست ضد مصر الناس.
لذلك لم تعجبني أبدا قصة عبدالله النجومي، واعتبرتها سلوكا استعماريا يشبه سلوك تحتمس ورمسيس في جلب أولاد أمراء الممالك المحيطة وتعليمهم في مصر لضمان ولائهم، فقد تم اختطاف الطفل بعد مقتل والده في معركة توشكي، وترتبيته وتعليمه بمعرفة الإنجليز بمعزل عن عائلته الكبيرة، ولما أعيد إلى مصر صار ركنا من أركان حكم الملك فاروق.
هذا الانقطاع بين عبدالله والنجومي وأشقائه في السودان يكشف لنا قبح القطيعة التاريخية بين البلدين، لذلك أوضح بما لايدع مجالاً للشك أنني أكتب عن هذه الثورة وفي ذهني إعادة تجسير هذه القطيعة، والنظر للثورة المهدية باعتبارها حركة تحرر إنساني، وليست تمردًا عدائيًا ضد مصر، حتى حملة النجومي الأب يمكن اعتبارها حملة ضد الحكم الإنجليزي والتركي، وليست ضد مصر.
أما النظرة الشوفينية للأمر، فلن تفضي بنا إلى فهم أوسع للثورة المهدية، وستظل ثورة دموية كهنوتية استغلت الظلم والجهل والأوضاع القبلية للحفاظ على مكانة زعماء القبائل القديمة، ومكاسب تجار العبيد، وحلم الخلافة الدينية الذي نقل فكرة «المهدي المنتظر» من المذهب الشيعي إلى المذهب السني!
***
نعود الآن إلى السرد بهذه الضوابط، وبعيدا عن أي حساسيات:
عرفنا أن المهدي هاجر إلى جبل قدير شمال فاشودة وجنوبي كردفان، وظهر كقوة عسكرية منيعة فشلت الحملات المتوالية في القضاء عليه، بل إنه كان مع الوقت يكسب الكثير من الأنصار، وترتفع معنويات وآمال الناس في دعوته، كما كان يكسب من مهاجميه المهزومين الكثير من البنادق والبارود، ما أضاف إليه قوة كان يفتقدها، وكانت معركة كيشان التي انتهت بهزيمة الجنرال البريطاني هيكس وفشله في استعادة مدينة الأبيض عاصمة كردفان، كانت بمثابة الإعلان الرسمي عن ميلاد الدولة المهدية وامتلاكها جيشًا قويًا منظمًا قادرًا على تحرير السودان بالكامل، وبالتالي بدأ التفكير العملي في التوجه رأسا نحو الخرطوم، لقطع رأس الأفعى.
كانت مصر قد سقطت تحت الاحتلال الإنجليزي، وعرابي تم نفيه، وتم تفكيك الجيش الوطني الذي سعى لبنائه، ومحاكمة الكثير من قادته، والولوج بالمتبقي من جنوده في معارك غير محسوبة في السودان، وظهر الإنجليز بوضوح كفاعلين متنفذين مع سلطة شكلية لاتقدم ولاتؤخر للخديو توفيق، وفي هذه الأجواء تحرك المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر، لينفذ خطة إخلاء السودان من المصريين، والسيطرة عليها بشكل مباشر، ولما اعترض رئيس الوزراء (مجلس النظار) شريف باشا، أقاله الخديو توفيق، وعين نوبار باشا لينفذ مطالب كرومر الذي اقترح استدعاء تشارلز جوردون لهذه المهمة التي انتهت بكربلاء إنجليزية نتعرف عليها الخميس المقبل
جمال الجمل ..